الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وحمله في هذه الآية على المعنى الإسمي تقتضيه قرينة السياق إذ لا يفهم أن يكون المعنى أن الذي يحدث الزنى لا يتزوج إلا زانية لانتفاء جدوى تشريع منع حالة من حالات النكاح عن الذي أتى زنى.وهذا على عكس محمل قوله: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور: 2] فإنه بالمعنى الوصفي، أي التلبس بإحداث الزنى حسبما حملناه على ذلك آنفًا بقرينة سياق ترتب الجلد على الوصف إذ الجلد عقوبة إنما تترتب على إحداث جريمة توجبها.فتمحض أن يكون المراد من قوله: {الزاني لا ينكح إلا زانية} إلخ: مَن كان الزنى دأبًا له قبل الإسلام وتخلق به ثم أسلم وأراد تزوج امرأة ملازمة للزنى مثل البغايا ومتخذات الأخدان ولا يكن إلا غير مسلمات لا محالة فنهى الله المسلمين عن تزوج مثلها بقوله: {وحرم ذلك على المؤمنين}.وقدم له ما يفيد تشويهه بأنه لا يلائم حال المسلم وإنما هو شأن أهل الزنى، أي غير المؤمنين، لأن المؤمن لا يكون الزنى له دأبًا، ولو صدر منه لكان على سبيل الفلتة كما وقع لماعز بن مالك.فقوله: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} تمهيد وليس بتشريع، لأن الزاني بمعنى مَن الزنى له عادة لا يكون مؤمنًا فلا تشرع له أحكام الإسلام.وهذا من قبيل قوله تعالى: {الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات} [النور: 26] وهذا يتضمن أن المسلم إذا تزوج زانية فقد وضع نفسه في صف الزناة، أي المشركين.وعطف قوله: {أو مشركة} على {زانية} لزيادة التفظيع فإن الزانية غير المسلمة قد تكون غير مشركة مثل زواني اليهود والنصارى وبغاياهما.وكذلك عطف {أو مشرك} على {إلا زان} لظهور أن المقام ليس بصدد التشريع للمشركات والمشركين أحكام التزوج بينهم إذ ليسوا بمخاطبين بفروع الشريعة.فتمحض من هذا أن المؤمن الصالح لا يتزوج الزانية.ذلك لأن الدربة على الزنى يتكون بها خلق يناسب أحوال الزناة من الرجال والنساء فلا يرغب في معاشرة الزانية إلا من تروق له أخلاق أمثالها، وقد كان المسلمون أيامئذ قريبي عهد بشرك وجاهلية فكان من مهم سياسة الشريعة للمسلمين التباعد بهم عن كل ما يستروح منه أن يذكرهم بما كانوا يألفونه قصد أن تصير أخلاق الإسلام ملكات فيهم فأراد الله أن يبعدهم عما قد يجدد فيهم أخلاقًا أوْشَكُوا أن ينسوها.فموقع هذه الآية موقع المقصود من الكلام بعد المقدمة ولذلك جاءت مستأنفة كما تقع النتائج بعد أدلتها، وقدم قبلها حكم عقوبة الزنى لإفادة حكمه وما يقتضيه ذلك من تشنيع فعله.فلذلك فالمراد بالزاني: مَن وصْف الزنى عادته.وفي تفسير القرطبي عن عمرو بن العاص ومجاهد: أن هذه الآية خاصة في رجل من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاح امرأة يقال لها: أم مهزول، وكانت من بغايا الزانيات وشرطت له أن تنفق عليه ولعل أم مهزول كنية عناق ولعل القصة واحدة إذ لم يرو غيرها.قال الخطابي: هذا خاص بهذه المرأة إذ كانت كافرة فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ.وابتدىء في هذه الآية بذكر الزاني قبل ذكر الزانية على عكس ما تقدم في قوله: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور: 2] فإن وجه تقديم الزانية في الآية السابقة هو ما عرفته، فأما هنا فإن سبب نزول هذه الآية كان رغبة رجل في تزوج امرأة تعودت الزنى فكان المقام مقتضيًا الاهتمام بما يترتب على هذا السؤال من مذمة الرجل الذي يتزوج مثل تلك المرأة.وجملة {وحرم ذلك على المؤمنين} تكميل للمقصود من الجملتين قبلها، وهو تصريح بما أريد من تفظيع نكاح الزانية وببيان الحكم الشرعي في القضية.والإشارة بقوله: {ذلك} إلى المعنى الذي تضمنته الجملتان من قبل وهو نكاح الزانية، أي وحرم نكاح الزانية على المؤمنين، فلذلك عطفت جملة {وحرم ذلك على المؤمنين} لأنها أفادت تكميلًا لما قبلها وشأن التكميل أن يكون بطريق العطف.ومن العلماء من حمل الآية على ظاهرها من التحريم وقالوا: هذا حكم منسوخ نسختها الآية بعدها {وأنكحوا الأيامي منكم} [النور: 32] فدخلت الزانية في الأيامى، أي بعد أن استقر الإسلام وذهب الخوف على المسلمين من أن تعاودهم أخلاق أهل الجاهلية.وروي هذا عن سعيد بن المسيب وعن عبد الله بن عمرو بن العاص وابن عمر، وبه أخذ مالك وأبو حنيفة والشافعي، ولم يؤثر أن أحدًا تزوج زانية فيما بين نزول هذه الآية ونزول ناسخها، ولا أنه فسخ نكاح مسلم امرأة زانية.ومقتضى التحريم الفساد وهو يقتضي الفسخ.وقال الخطابي: هذا خاص بهذه المرأة إذ كانت كافرة فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ.ومنهم من رأى حكمها مستمرًا.ونسب الفخر القول باستمرار حكم التحريم إلى أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعائشة رضي الله عنهم ونسبه غيره إلى التابعين ولم يأخذ به فقهاء الأمصار من بعد. اهـ.
.قال الشنقيطي: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ}.قد قدمنا مرارًا من أنواع البيان التي تضمنها هذا الكتاب المبارك أن يقول بعض العلماء في الآية قولًا، ويكون في نفس الآية قرينة دالة على عدم صحة ذلك القول، ذكرنا هذا في ترجمة الكتاب وذكرنا فيما مضى من الكتاب أمثلة كثيرة لذلك، ومن أمثلة ذلك هذه الآية الكريمة.وإيضاح ذلك: أن العلماء اختلفوا في المراد بالنكاح في هذه الآية، فقال جماعة: المراد بالنكاح في هذه الآية: الوطء الذي هو نفس الزنى، وقالت جماعة أخرى من أهل العلم: إن المراد بالنكاح في هذه الآية هو عقد النكاح. قالوا فلا يجوز لعفيف أن يتزوج زانية كعكسه، وهذا القول الذي هو أن المراد بالنكاح في الآية: التزويج لا الوطء في نفس الآية قرينة تدل على عدم صحته، وتلك القرينة هي ذكر المشرك والمشركة في الآية، لأن الزاني المسلم لا يحل له نكاح مشركة لقوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] وقوله تعالى: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] وقوله تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} [الممتحنة: 10]، كذلك الزانية المسلمة لا يحل لها نكاح المشرك لقوله تعالى: {وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ} [البقرة: 221] فنكاح المشركة والمشرك لا يحل بحال. وذلك قرينة على أن المراد بالنكاح في الآية التي نحن بصددها الوطء؛ الذي هو الزنى؛ لا عقد النكاح، لعدم ملاءمة عقد النكاح لذكر المشرك والمشركة، والقول بأن نكاح الزاني للمشركة والزانية للمشرك، منسوخ ظاهر السقوط، لأن سورة النور مدنية؛ ولا دليل على أن ذلك أحل بالمدينة، ثم نسخ. والنسخ لابد له من دليل يجب الرجوع إليه..مسألة تتعلق بهذه الآية الكريمة: اعلم أن العلماء اختلفوا في جواز نكاح العفيف الزانية؛ ونكاح العفيفة الزاني، فذهب جماعة من أهل العلم منهم الأئمة الثلاثة إلى جواز نكاح الزانية مع الكراهة التنزيهية عند مالك وأصحابه؛ ومن وافقهم؛ واحتج أهل هذا القول بأدلة:منها: عموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وهو شامل بعمومه الزانية والعفيفة وعموم قوله تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} [النور: 32] الآية؛ وهو شامل بعمومه الزانية أيضًا والعفيفة.ومن أدلتهم على ذلك: حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلًا جاء إلى المدينة فقال: إن امرأتي لا تردّ لامس: قال: «غربها» قال أخاف أن تتبعها نفسي؟ قال: «فاستمتع بها» قال ابن حجر في بلوغ المرام في هذا الحديث بعد أن ساقه باللفظ الذي ذكرنا: رواه ابو داود، والترمذي، والبزار ورجاله ثقات، وأخرجه النسائي من وجه آخر، عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ قال: «طلقها» قال لا أصبر عنها قال: «فامسكها» اه من بلوغ المرام، وفيه تصريح ابن حجر بأن رجاله ثقات، وبه تعلم أن ذكر ابن الجوزي لهذا الحديث في الموضوعات فيه نظر؛ وقد ذكره في الموضوعات موسلًا عن أبي الزبير قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي، الحديث؛ ورواه أيضًا مرسلًا عن عبيد بن عمير، وحسان بن عطية كلاهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: وقد حمله أبو بكر الخلال عل الفجور؛ ولا يجوز هذا؛ وإنما يحمل على تفريطها في المال لو صح الحديث.قال أحمد بن حنبل: هذا الحديث لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس له أصل. انتهى من موضوعات ابن الجوزي، وكثرة اختلاف العلماء في تصحيح الحديث المذكور وتضعيفه معروفة.وقال الشوكاني في نيل الأوطار: ولا ريب أن العرب تكنى بمثل هذه العبارة، عن عدم العفة عن الزنى، يعني بالعبارة المذكورة قول الرجل: إن امرأتي لا تردّ يد لامس. اهـ. وما قاله الشوكاني وغيره هو الظاهر لأن لفظ: لا تردّ يد لامس، أظهر في عدم الامتناع ممن أراد منها ما لا يحل كما لا يخفى فحمله على تفريطها في المال غير ظاهر، لأن إطلاق لفظ اللامس على أخذ المال، ليس بظاهر كما ترى.قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الحديث المذكور في المرأة التي ظهر عدم عفتها، وهي تحت زوج. وكلامنا الآن في ابتداء النكاح لا في الدوام عليه وبين المسألتين فرق كما سترى إيضاحه إن شاء الله تعالى.ثم اعلم أن الذين قالوا بجواز تزويج الزانية والزاني أجابوا عن الاستدلال بالآية التي نحن بصددها، وهي قوله تعالى: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} الآية من وجهين.الأول: أن المراد بالنكاح في الآية هو الوطء الذي هو الزنى بعينه، قالوا: والمراد بالآية تقبيح الزنى وشدة التنفير منه، لأن الزاني لا يطاوعه في زناه من النساء إلا التي هي في غاية الخسة لكونها مشركة لا ترى حرمة الزنى أو زانية فاجرة خبيثة.وعلى هذا القول فالإشارة في قوله تعالى: {وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين} راجعة إلى الوطء الذي هو الزنى، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منه كعكسه، وعلى هذا القول فلا إشكال في ذكر المشركة والمشرك.الوجه الثاني: هو قولهم: إن المراد بالنكاح في الآية التزويج، إلا أن هذه الآية التي هي قوله تعالى: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} [النور: 32] الآية، وممن ذهب إلى نسخها بها: سعيد بن المسيب، والشافعي.وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية ما نصه: هذا خبر من الله تعالى بأن الزاني، لا يطأ إلا زانية، أو مشركة: أي لا يطاوعه على مراده من الزنا إلا زانية عاصية أو مشركة لا ترى حرمة ذلك، وكذلك الزانية لا ينكحها إلا زان: أي عاص بزناه، أو مشرك لا يعتقد تحريمه.قال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} قال: «ليس هذا بالنكاح إنما هو الجماع لا يزني بها، إلا زان أو مشرك»، وهذا إسناد صحيح عنه، من غير وجه أيضًا، وقد روي عن مجاهد وعكرمة، وسعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، والضحاك، ومكحول، ومقاتل بن حيان، وغير واحد نحو ذلك. انتهى محل الغرض منه بلفظه.فتراه صدر بأن المراد بالنكاح في الآية: الجماع، لا التزويج. وذكر صحته عن ابن عباس الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم الله أن يعلمه تأويل القرآن. وعزاه لمن ذكر معه من أجلاء المفسرين، وابن عباس رضي الله عنهما من أعلم الصحابة بتفسير القرآن العظيم، ولا شك في علمه باللغة العربية.فقوله في هذه الآية الكريمة بأن النكاح فيها هو الجماع لا العقد يدل على أن ذلك جار على الأسلوب العربي الفصيح. فدعوى أن هذا التفسير لا يصح في العربية، وأنه قبيح، يرده قول البحر ابن عباس كما ترى.
|